الهوية- بحث عن الذات بين التاريخ، الدين، والمستقبل الرقمي.

المؤلف: د. خالد حاجي11.01.2025
الهوية- بحث عن الذات بين التاريخ، الدين، والمستقبل الرقمي.

غالبًا ما نتناول موضوع "الهوية" بشكل سطحي وعابر، دون الغوص في أعماق معاني هذه الكلمة ودلالاتها، سواء في الواقع الملموس أو في عالم الأفكار المجردة. قلما نجد من يسأل عن مغزى عبارات مثل "الهوية العربية" أو "هوية المجتمع الإسلامي" أو "هوية الإنسان الغربي"، وكأننا نسلم بأن هذه الهويات واضحة المعالم والدلالات، وأن كل واحدة منها تحمل معانٍ فريدة لا تتقاطع مع أي هوية أخرى. إلا أن التدقيق في مفهوم الهوية، لفظًا ومضمونًا، يكشف لنا عن أبعاد خفية لا تحصى.

يتبوأ علم النفس مكانة مرموقة بين العلوم في استكشاف هوية الإنسان، أي كيف يكون هذا الإنسان "هو هو" بذاته، وليس نسخة من غيره. اعتاد العديد من الباحثين النظر إلى النفس البشرية كوحدة متكاملة ومستقلة، منعزلة عن المؤثرات الخارجية. غير أننا نشهد اليوم اتجاهًا متزايدًا نحو إعادة النظر في هذه النفس من زاوية تفاعلاتها وتشابكاتها المعقدة مع المجتمع والثقافة والتاريخ الشخصي والجماعي واللغة والدين، وغيرها من العوامل المؤثرة. فالإنسان ليس مجرد آلة تتكون من قطع غيار يمكن استبدالها بسهولة؛ بل هو معجزة، فإذا أدركت القليل من خصائصه النفسية، فقد فاتك الكثير مما يجعله إنسانًا فريدًا، وما يجعله "هو هو" المتميز.

لا يمكن لأحد أن ينكر الإسهامات الجليلة لكل من "سيغموند فرويد" و"جاك لاكان" و"كارل غوستاف يونغ" في مجال التنظير النفسي إلا جاحد متعنت. لقد لعب هؤلاء العلماء دورًا محوريًا في فتح آفاق واسعة للتأمل في أعماق النفس البشرية. لكننا اليوم، ونحن نتابع النقاشات المستمرة حول سبل فهم هذه النفس وأساليب علاجها، نجد أنفسنا أمام بحر شاسع لا يحده شاطئ، أمام قارة بكر لم تطأها الأقدام بعد. خير دليل على تعقيد البحث في علوم النفس هو ذلك التداخل الوثيق بين ما هو عقلي محض، وما هو دماغي يرتبط بعلم الأعصاب ارتباطًا وثيقًا. بالإضافة إلى ذلك، يستحيل الفصل بين المكون البيولوجي والمكون الثقافي في تحديد هوية الإنسان. هذا فضلًا عن التشابكات المتنوعة بين الهوية الفردية والهوية الجماعية.

تعتبر رواية «يد فاطمة» من الأعمال التي تعكس شعورًا قويًا لدى الكثير من الإسبان بهوية ممزقة وانشغالهم بالبحث عن سبل لملمتها في وحدة متجانسة

تتجلى لنا بعض الأعمال الأدبية المتميزة معانٍ عميقة للهوية. فمن يقرأ رواية "إلدفونسو فالكونيس" (Ildefonso Falcones) الموسومة بـ "يد فاطمة" (Lamano di Fatima)، يلمس بوضوح ما يمكن أن نسميه "الهوية المتصدعة". يجسد هذه الهوية "هرناندو"، الشخصية التي ولدت على خط التماس بين عالمين متنافرين ومتصارعين، من أب قس مسيحي مغتصب وأم مسلمة مغتصبة. يجد "هرناندو" نفسه مضطرًا للدفاع عن المسيحيين تارة، وعن المسلمين تارة أخرى، وهو في هذا السياق يسعى جاهدًا لدمج عنصرين أساسيين من مكونات الهوية الإسبانية التي عمدت محاكم التفتيش إلى بترها من بعدها الإسلامي وتقطيع أوصالها.

عندما شرعت محاكم التفتيش في محو آثار الوجود الإسلامي وتهجير المسلمين من الأندلس، سعيًا وراء تحقيق هوية مسيحية صافية ونقية، قام "هرناندو" بإخفاء نسخة من القرآن الكريم خلف جدران مسجد قرطبة الذي تحول إلى كنيسة. وكأن "فالكونيس" يريد أن يؤكد أن المقدس الإسلامي، الذي تعتبره الكنيسة مدنسًا، لا يزال كامنًا بداخلها، ولا يمكن إنكار وجوده أو طمس معالمه بأي حال من الأحوال.

تزخر الرواية برموز عديدة تدعو إلى التأمل في الإرث الإسلامي، انطلاقًا من الرغبة الصادقة في تحقيق مصالحة مع الماضي الذي كان لهذا الإرث فيه حضور قوي وفاعل. من بين المهام التي اضطلع بها هرناندو الإشراف على إسطبل خيول الملك، وقد نشأت بينه وبين فرس أصيلة علاقة وثيقة، وتبادل الطرفان مشاعر المودة والتقدير. وعندما قرر الملك فجأة إهداء هذه الفرس إلى أحد النبلاء، انتاب هرناندو حزن عميق، وشعرت الفرس بدورها بقرب الفراق. وعندما امتطاها هرناندو للمرة الأخيرة ليودعها قبل الرحيل، تفاجأ بخروجها عن سيطرته وانطلاقها بسرعة فائقة نحو أحد الأعمدة، لتصطدم به بقوة وتفارق الحياة على الفور.

يهدف "فالكونيس" من خلال هذه الحادثة المؤثرة إلى إبراز تفوق "هرناندو"، الذي تلقى تعليمه وتدريبه على يد العرب المسلمين، في فنون الفروسية والعناية بالخيل، على النبلاء الإسبان المسيحيين الذين كانوا يفتقرون إلى هذه المهارات، الأمر الذي دفع الأفراس إلى تفضيل الموت على الانتقال من ملكية العرب المسلمين إلى ملكيتهم.

تعد رواية "يد فاطمة" من الأعمال الأدبية التي تعكس شعورًا جارفًا لدى العديد من الإسبان بهوية متصدعة وانشغالهم الدائم بالبحث عن طرق لترميمها وتوحيدها. من هنا تنبع الإشارة الرمزية إلى القرآن المخفي في كنيسة قرطبة والفرس التي فضلت الانتحار على الابتعاد عن رعاية العرب المسلمين والانتقال إلى ملكية النبلاء المسيحيين. من يقرأ رواية "يد فاطمة" الشيقة ينتابه إحساس عميق بوجود هوية قلقة تسعى جاهدة للتصالح مع التاريخ، بحثًا عن الاستقرار والسكينة.

وإذا كان "فالكونيس" يمثل الهوية المتصدعة والقلقة، فإن "إدوارد سعيد" يسعى من خلال كتابة سيرته الذاتية "خارج المكان" (Out of Place) إلى تجسيد معنى "الهوية المهجرة"، هوية الإنسان الفلسطيني الذي سلبه الاستعمار والإمبريالية الإحساس بالانتماء إلى وطنه، ليجد نفسه تارة أسيرًا في المخيمات، وتارة أخرى في مهاجر الاغتراب، ويبقى همه الأوحد منصرفًا إلى تحقيق العودة إلى أرضه التي تلتئم فيها هويته وتستقر جذورها.

يروي "سعيد" كيف أنه ذهب، خلال زيارته للقاهرة مع أفراد عائلته، لزيارة المدرسة التي طرد منها في زمن الاستعمار البريطاني لمصر، وكيف أن المسؤولين عن هذه المدرسة – التي تحولت إلى مؤسسة تعليمية محلية – منعوه من دخولها. يحمل هذا الحدث دلالة رمزية عميقة يريد "إدوارد سعيد" من خلالها تعزيز إحساس القارئ بهوية عاجزة عن التجسد في مكان. فإذا كان "فالكونيس" يطالب بالتصالح مع التاريخ كشرط لتحقيق هوية إسبانية متكاملة، فإن "سعيد" ظل يناشد العودة إلى أرض فلسطين كشرط لتحقيق هويته المهجرة والمطرودة.

نستخلص من هذين المثالين حقيقة مهمة وهي أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا ومتحققًا، بل هي عملية مستمرة من التشكيل والتحقق، تنطلق من زمان ومكان محددين؛ لتتطلع إلى الكمال والاستقرار في المستقبل. والواقع أن هوية الإنسان لا تكون كاملة وشاملة إلا في حالة واحدة: عندما تكون مفروضة عليه قسرًا. بمعنى آخر: الهوية الكاملة هي سجن يضعه فيه الآخر؛ أما الهوية المتحررة، فهي مشروع الإنسان في الوجود والتحقق.

بهذا تتجاوز الهوية دائرة الماهية الثابتة والجامدة، لتدخل في فلك الفعل والحركة والتطور. في كثير من الأحيان، تكون الهوية مجرد ستار واه يختبئ خلفه العاجزون والضعفاء. فما الذي يمنع إنسانًا أوروبيًا، مهما كان جاهلًا وأميًا وفاشلًا، من إعلان انتمائه إلى الهوية الغربية والتباهي بالعلم والتقدم والتكنولوجيا، تحديًا للإسلام أو العروبة أو الثقافات الشرقية؟ وما الذي يمنع الإنسان العربي المسلم، مهما كان فظًا وقليل الحظ من المروءة والدين والأخلاق، من الاختباء وراء الانتماء إلى منظومة روحانية وأخلاقية شرقية مسلمة، متنكرًا لفضائل الغرب؟

الهوية ليست شيئًا متحققًا، وإنما هي دائمًا قيد التحقق، تنطلق من زمن ومكان معيّنين؛ لتستشرف الكمال والاستقرار في المستقبل. ولا يحصل أن تكون كاملة وجامعة مانعة إلا حين تكون مفروضة. بمعنى آخر: الهوية الكاملة هي سجن يضعك فيه الآخر؛ وأما الهوية المتحررة، فهي مشروع الإنسان في الوجود

إذا كان علم النفس هو الأقرب إلى البحث في موضوع الهوية وكيف يكون الإنسان "هو هو"، فإن للغة دورًا بارزًا في تجسيد هذه الهوية. فاللغة العربية، على عكس اللغات الأوروبية مثلًا، لا تساعد على تمثل الذات في حالة الثبات والسكون، حيث أن أفعال الكينونة تصور لنا وجود الشيء في علاقته بكون دائم الحركة والتغير. فالفعل "كان" يشير إلى وجود الشيء في الكون، أي إلى وجود سابق معطى؛ والفعل "أصبح" يشير إلى وجود الشيء في الصباح؛ والفعل "أمسى" يشير إلى وجود الإنسان في المساء؛ والفعل "ظل" يشير إلى وجود الإنسان تحت الظل؛ والفعل "بات" يشير إلى وجود الإنسان في البيت، وهكذا.

مفاد هذا الكلام أن الإنسان لا يضمن أن "يكون مسلمًا" في الصباح، ثم "يصبح مجوسيًا" في المساء، ثم "يمسي بوذيًا"، ثم "يبيت شيئًا آخر". لذلك نرى أن الرسول الكريم كان يدعو ربه قائلًا: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وهو الذي لا يأمن أن يزيغ قلبه بعد أن هداه الله. هذا يدل على أن الهوية هي مناط دعاء وأمل من وجهة نظر الدين.

الحديث عن الهوية لا ينفصل عن الأحداث الأليمة التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية في هذه الأيام. لقد اختلطت الأمور وتداخلت، فصرنا نعجز عن تصور معنى أن تكون عربيًا مسلمًا وأنت تتخاذل عن نصرة القضايا العربية والإسلامية العادلة، ومعنى ألا تكون عربيًا مسلمًا وتظهر الاستبسال في الدفاع عن هذه القضايا.

لم تعد الهوية مجرد زي نرتديه أو قول نعلنه لإثبات الانتساب، بل أصبحت الهوية موقفًا نسعى من خلاله إلى تحقيق الذات في المستقبل. قد تكون الهوية إرثًا نتوارثه، لكن الأحداث المتلاحقة توضح لنا أن الهوية شيء دائم التكون والتشكل. إن الأحداث الجسام التي تمر بها الشعوب العربية والإسلامية اليوم تستدعي منا التفكير مليًا في الهوية، لا من منطلق الانتماء إلى ماض مشترك فحسب، بل من منطلق مستقبل واعد نحتاج فيه إلى سردية جديدة تحدد طبيعته وسبل تحقيق ذواتنا فيه.

لا شك أن التحديات التي تواجه الهوية، سواء هوية الفرد أو الجماعة، تتزايد حدة في العصر الرقمي، عصر الخوارزميات والذكاء الاصطناعي المتسارع. ولا ريب كذلك في أن العالم العربي والإسلامي أصبح أكثر عرضة من غيره للأخطار التي تهدد هويته بالتشتت والتمزق. ولعل هذا ما يدعونا إلى التفكير في مسألة الهوية في العصر الرقمي تفكيرًا معمقًا وشاملًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة